انتفض المعلم بريك من مكانه مثل ثور هائج ، وتوجه نحو مولاي المحفوض برأس مرفوع وعينين تعلوهما حمرة الغضب القانية ، بينما شبك أصابع يديه خلف ظهره حتى لا تنفلتا ويرتكب بهما حماقة هو في غنى عنها ، وبدأت الكلمات الحارقة تتدفق من فمه مثل حمم بركانية ملتهبة . مولاي المحفوظ سمع من فم بوسلام ما لم يكن يعتقد أن يسمعه في يوم من الأيام . قال له بنبرة حادة :
– إنك لا تملك ولو ذرة واحدة من الإنسانية ، وإلا فلماذا تستغلني رفقة العمال الذين يشتغلون هنا بهذه الطريقة البشعة ؟
واتهمه بكونه من تسبب له في مرض السياتيك الذي حول ظهره إلى بؤرة من الالتهابات الحادة التي لا تنتهي منذ يوم أمره بإفراغ محتوى تلك الشاحنة الضخمة من السكر الثقيلة . وقال له أشياء كثيرة ، ثم تنهد بعمق وهم بالانصراف ، وما أن خطا أربع خطوات حتى انتفض مولاي المحفوظ بدوره وأرسل له سهما حارقا . قال له بصوت متهكم :
– كن متيقنا أنك لن تجد طيلة حياتك من يصنع في حقك معروفا كذلك الذي صنعته فيك يوم قبلت أن أشغلك في متجري ، فلولاي لكنت الآن متشردا تقضي ساعات النهار الطويلة في التسكع بين الحارات والشوارع ، وفي الليل تنام تحت سواري المدينة جنبا إلى جنب مع القطط المشردة والكلاب الضالة !
ما أن سمع المعلم بريك هذه الجملة حتى ارتفعت درجة حرارة الثورة التي تغلي في صدره بشكل مهول ، فالتفت نحو مولاي المحفوظ لفتة خاطفة مثل النسر ، وتراجع أربع خطوات إلى الوراء حتى وقف وجها لوجه معه ، وألقى عليه قنبلة مدوية جعلت فرائص هذا الأخير ترتعد بشكل لم يسبق لها أن كانت عليه يوما ، قال له بصوت مزلزل :
– يجب عليك أن تعترف أن المعروف الوحيد الذي صنعته في حقي هو أنك قمت باستغلالي طيلة أربع سنوات خير استغلال ، أشتغل من طلوع الشمس إلى غروبها طيلة أيام الأسبوع مثل حصان الناعورة ، وليس لدي ضمان اجتماعي ولا أي ضمان آخر ، وحتى المرتب الشهري الذي تعطيني إياه بعد أن يكون الشهر قد فات بأيام كثيرة لا يصل حتى إلى الحد الأدنى للأجور ، فعن أي معروف تتحدث يا رجل ؟! والآن حان الوقت كي تدفع ثمن كل الجرائم التي اقترفتها في حقي وفي حق العمال الآخرين طيلة كل هذه السنوات الطويلة ، لدي شهود على أتم الاستعداد للشهادة لصالحي ضدك ، بل إنني أعرف مفتشا للشغل على أتم الاستعداد بدوره للوقوف في صفي حتى أسترد كل حقوقي التي هضمتها مثل حيوان بلا أحاسيس ، وعندما تصل القضية أمام المحكمة فإني لن أقبل بأقل من عشرة ملايين كتعويض ! لقد حاولت طيلة كل هذه السنوات الطويلة التي قضيتها هنا أن أتحمل حماقاتك ، والآن أجد نفسي مضطرا لإظهار وجهي الآخر الذي طالما حاولت إخفاءه . سوف تدفع الثمن باهظا أيها الرجل ، أجل سوف تدفع الثمن باهظا جدا ، حتى أنك ستندم على اليوم الذي عرفتني فيه ! آويلي …القضية ولات بحال شي مسلسل مكسيكي مشوق .
حينها تغير لون وجه مولاي المحفوظ، وبدأ يتوسل إلى المعلم بريك ألا ينفذ تهديده ، واعدا إياه بزيادة محترمة في مرتبه الشهري ، إضافة إلى امتيازات أخرى .
المعلم بريك شعر بسرور عارم يغمره من أخمص قدميه إلى آخر شعرة في رأسه وهو يسمع مولاي المحفوظ يستعطفه بصوت يقترب من البكاء ، هو لا يحب أن يرى خصومه في مثل هذه الحالة المزرية ، لكن بما أن مولاي المحفوظ هو الذي بدأ بالعار فلا بأس أن يدفع ثمن ذلك . المعلم بريك استطاع أن ينتصر بدهائه الكبير . هو لا يعرف أي مفتش للشغل ، بل إنه يتخذ دائما مسافة فاصلة بينه وبين كل الذين يشتغلون مع المخزن ، لأنه لا يرى فيهم سوى مجرد مرتشين يأكلون الحرام، دون أن تؤنبهم ضمائرهم الميتة أصلا ، وليس هناك ولا شاهد واحد على استعداد للشهادة لصالحه …
ثم توجه إلى غرفته الضيقة التي يكتريها في الحي الشعبي، وهو يردد في نفسه ذلك البيت الرائع الذي قاله الشاعر الكبير مولاي علي شوهاد ذات زمان :
يوف يان اصبرن اتمارا اركيخ ازريتنت يان اور ايرين اداس صبرن اركّيس ايتداوام….
علي الورقي فاس في 04/09/2012